تسليع
التعليم: هل نفقد المعنى في ظل اقتصاد الدورات والشهادات؟
مقدمة:
في السنوات الأخيرة، تحوّل التعليم من
كونه رسالة ذات أبعاد معرفية وإنسانية عميقة إلى منتج يُسوّق عبر عناوين براقة
وعبارات تحفيزية سريعة.
في عالم تتسارع فيه التكنولوجيا
ويزداد فيه الإقبال على الدورات القصيرة والشهادات الرقمية، تبرز ظاهرة "تسليع التعليم" كأحد أبرز التحديات التي تواجه العملية التربوية في جوهرها.
فهل ما يحدث هو ديمقراطية معرفية
وتيسير للتعلم؟
أم أننا بالفعل نفقد المعنى العميق للتعليم
في ظل اقتصاد جديد تُباع فيه المعرفة وتُستهلك كأي سلعة؟
![]() |
تسليع التعليم |
أولًا: ما هو تسليع التعليم؟ وكيف بدأ؟
تسليع التعليم هو تحويل التعليم إلى منتج تجاري
يُباع ويُشترى، يُحدد بثمن، ويُروَّج له، ويُستهلك ضمن منطق السوق.
بدأ هذا التحول مع ظهور المنصات
التعليمية الإلكترونية، ومع تسهيل الوصول إلى المحتوى، إلا أن التحدي لم يكن في
الإتاحة بل في فقدان البعد التربوي لصالح المنفعة السريعة.
بات البعض ينظر إلى الدورات التدريبية
على أنها فرص استثمارية، بينما يتعامل المتعلم معها كـ "منتج جاهز"، لا
يتطلب سوى الدفع للحصول عليه… لا رحلة فهم ولا تعبّر عن احتكاك عميق مع المعلومة.
ثانيًا: من
التعلم العميق إلى التعليم السريع
في الماضي، كانت المعرفة تُكتسب عبر
التدرج، القراءة المكثفة، الحوار، والممارسة. كان الطالب يستغرق شهورًا، وأحيانًا
سنوات، لإتقان مهارة واحدة أو فهم نظرية ما.
أما اليوم، تُروَّج الدورات تحت
شعارات مثل:
- "إتقان البرمجة في 10 أيام"
- "كن خبير تسويق رقمي في ساعتين"
- "احصل على شهادة معتمدة من جامعة
عالمية بثلاث نقرات"
هذا التوجه نحو التعلم السريع
والمضغوط لا يخلو من فائدة، لكنه في كثير من الأحيان يفتقر للعمق والتمكّن،
ويُنتج متعلمين يحملون مصطلحات وليس مفاهيم، مهارات سطحية وليست حقيقية.
ثالثًا:
تضخّم الشهادات وفقدان قيمتها
أصبح الحصول على الشهادات مسألة وقت
أو مال، لا نتيجة اكتساب مهارات حقيقية. فعدد كبير من الدورات يمنح شهادات
تلقائيًا، بمجرد إنهاء الفيديوهات أو النقر على زر "أكملت الدورة".
وهنا يظهر ما يُعرف بـ "تضخم الشهادات"، حيث تتزاحم الألقاب والاعتمادات على صفحات
التواصل والسير الذاتية، دون أن يكون لها أي انعكاس على جودة الأداء أو الكفاءة
العملية.
هذا التضخم يُفقد الشهادات قيمتها
الرمزية والعملية، ويجعل سوق العمل أكثر شكًا وريبة، ويدفع المؤسسات للتشكيك
في مصداقية مؤهلات المتقدمين.
رابعًا:
ضعف العمق التربوي للمحتوى التعليمي
تسليع التعليم يضغط على صنّاع المحتوى
لتقديم دورات خفيفة، سهلة، وسريعة، تتوافق مع توقعات المستهلكين الذين
يبحثون عن "النتائج الآن".
في هذه البيئة، يُختزل المحتوى في
شرائح عرض سريعة، دون تحليل أو أمثلة معمّقة، ويُستبدل التفكير الناقد بمعلومات
محفوظة تُعاد مرارًا في مئات الدورات.
يؤدي ذلك إلى:
- فقدان
الأساس العلمي
للمحتوى.
- انتشار
المفاهيم السطحية والخاطئة.
- غياب
التفكير النقدي والنقاش داخل العملية التعليمية.
وهنا تفقد العملية التعليمية
قيمتها التكوينية، وتتحول إلى مجرد توصيل معلومات قابلة للطيّ والنسيان.
خامسًا:
عندما يسبق الربح الهدف التربوي
في ظل الطلب الكبير على التعليم
الرقمي، بدأ بعض "المدربين" أو حتى المعلمين، في تقديم محتوى بغرض الربح
السريع، متجاهلين قيم الجودة والمصداقية.
يركزون على:
- تسويق
العنوان قبل تقييم المحتوى.
- حصد
الشهادات والمتدربين بدلاً من تطويرهم.
- إقناع
المتعلم بقدرته على التعلّم بلا عناء، لا تشجيعه على الاجتهاد.
وهكذا يُباع الوهم أحيانًا أكثر من
المعرفة، وتُستنزف ثقة المتعلم بالعملية التعليمية.
سادسًا:
كيف نحافظ على جوهر التعليم؟
رغم التحديات، ما زال هناك أمل في استعادة
التوازن بين السوق والقيمة.
ولا يعني هذا رفض التعليم الرقمي أو
الدورات القصيرة، بل إعادة ضبط البوصلة نحو الجودة والمعنى.
لتحقيق ذلك، يمكن:
1. نشر الوعي التربوي بين المتعلمين بأن المهارة لا تعني الشهادة،
والتعلم لا يُقاس بالمدة فقط.
2. تشجيع منصات توازن بين الربح
والمعايير التربوية،
وتُقيّم المدربين قبل عرض المحتوى.
3. إشراف تربوي على صناعة المحتوى من قبل مختصين ذوي خلفية علمية.
4. تبنّي نماذج تعليمية تجمع بين السرعة
والعمق، مثل التعلم القائم على المشاريع، أو
التعلّم المدمج.
5. تحفيز المؤسسات التعليمية على تحديث
مناهجها دون الوقوع في فخ التسليع.
خاتمة:
إن أخطر ما يهدد التعليم اليوم ليس
ضعف الموارد، بل فقدان المعنى…
حين يصبح الهدف "بيع دورة"،
لا "تغيير حياة"، وحين تُصبح الشهادة غاية لا وسيلة.
التعليم الحقيقي لا يُقاس بعدد
الشهادات، بل بقدرتك على التفكير، الفهم، التطبيق، والتأثير.
فلنحرص جميعًا – كمعلمين، متعلمين،
ومنصات – على ألا نبيع ما لا يُشترى:
الجوهر التربوي.